متابعة سكاي برس
بعد انتظار طويل وتنافس محموم، أعلن العراق في تمام الساعة السادسة من مساء 18 كانون الأول/ديسمبر الحالي، إغلاق مراكز الاقتراع كافة، ليُختم بذلك فصل انتخابات مجالس محافظاته.
مشوار الفصل الثاني، لا يزال قيد التحضير، والهدف منه رسم خريطة سياسية جديدة، قد تعلن عن "مستقبل هادئ مزدهر، أو واقع صراع جديد".
يوم واحد كان كافياً لإنهاء عمليات العدّ والفرز، إذ أعلنت المفوضية العليا للانتخابات عن نتائجها الأولية، بصعود مفاجئ لبعض القوى السياسية، وتراجع غير متوقع لأخرى، وصدمة لبعض المرشحين بسبب فوزهم، أو عدم تأهلهم.
وكانت مجالس المحافظات،قد عُطّلت بعد انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، التي اجتاحت معظم مدن البلاد، ضد الفساد المستشري فيها، فوجّه البرلمان في وقتها، بتجميد عمل هذه المجالس، ولكنها استمرت برغم ذلك في مهامها، بسبب عدم إصدار أي مرسوم تنفيذي بهذا الإيعاز التشريعي.
وكانت مفوضية الانتخابات قد بدأت بالتحضير لها منذ تموز/يوليو الماضي، ووافقت على ترشيح أكثر من 5،000 مرشح، يمثلون 68 حزباً وكياناً سياسياً. وبحسب المتحدثة باسم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، جمانة غلاي، فإن لكل محافظة 12 مقعداً ثابتاً، يضاف إليها مقعد واحد، عن كل 200 ألف نسمة، في المحافظات التي يزيد تعداد سكانها عن مليون نسمة.
فمثلاً، تمتلك العاصمة بغداد ذات التسعة ملايين نسمة، بحسب إحصائيات عام 2022، 49 مقعداً، يتم تقسيمها بين الكتل الفائزة، بالإضافة إلى 3 مقاعد خاصة للكوتا المسيحية والصابئية والكردية، ويتم تحديد الفائزين اعتماداً على قانون سانت ليغو، بقسمة عدد المصوّتين على نسبة 1.7.
صدمة كبيرة حملتها النتائج الأولية، خاصةً في محافظة بغداد، بعد اكتساح حزب "تقدّم" ورئيسه المعزول من قيادة البرلمان، محمد الحلبوسي، وحلوله في المرتبة الأولى، بأكثر من 132 ألف صوت. وحلّ تحالف "نبني" بقيادة رئيس منظمة بدر، هادي العامري ثانياً، تلاه في المرتبة الثالثة"ائتلاف دولة القانون" الذي سبق أن هيمن على مجلس محافظة بغداد بـ28 مقعداً في انتخابات عام 2013، ولم يحقق في الانتخابات الأخيرة سوى 9 مقاعد.
ولم يتوقف تراجع نسبة المصوّتين عند "ائتلاف دولة القانون"، وزعيمه نوري المالكي، بل طال كذلك، التحالفات المنبثقة عن الإطار التنسيقي الشيعي كافة، بتراجعها من 3 ملايين صوت في انتخابات عام 2021، إلى 1.6 ملايين صوت في الانتخابات الحالية، ويعزو الكثير من المحللين هذا التراجع إلى خلافاتهم المستمرة فيما بينهم، وابتعادهم عن قاعدتهم الجماهيرية.
كما سجلت الانتخابات الأخيرة عموماً، تراجعاً في نسبة المشاركين فيها، فبرغم أن المفوضية قد أعلنت عن مشاركة غير مسبوقة في التصويت الخاص بالقوات الأمنية، بلغت نسبتها 61%، إلا أنها تناست مقارنة هذه النسبة بالانتخابات السابقة، في عام 2021، والتي تجاوزت فيها نسبة 69%، بالإضافة إلى انتخابات مجالس المحافظات السابقة في عام 2013،ومساهمة 72% من المصوّتين في الاقتراع الخاص.
أما في الاقتراع العام، فتشير إحصائيات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، إلى تجاوزها حاجز الـ41%، ولكن عدداً من المراقبين نفوا صحة هذه النسبة.
ويؤكد ذلك الباحث في الشؤون الانتخابية، سعيد عبد الغفور الجنابي، بقوله إن المفوضية العليا اعتمدت على عدد المواطنين الذين حدّثوا بطاقاتهم الانتخابية والبالغ 16 مليون نسمة، وقد شارك فيها نحو 8 ملايين فقط، بينما أهملت العدد الحقيقي للمواطنين المؤهلين للانتخاب والبالغ 24 مليون ناخب، وبذلك يحدد نسبة المشاركة الفعلية في الانتخابات بنحو 26% فقط.
ويشير في تصريح صحفي إلى أن هذه النسب تؤكد فشل الحكومة، وعدم بذلها الجهود المطلوبة، من أجل معرفة أسباب عدم مشاركة 73% في الاقتراع، كما أهملت الوقوف على المشكلات التي طالت أجهزة التصويت في يوم الاقتراع.
وكانت وسائل صحافية قد أكدت تعطل العديد من الأجهزة البايومترية، وعدم قدرتها على قراءة بطاقات الناخبين أو بصماتهم، وضياع أصواتهم تالياً، بالإضافة إلى اعتكاف التيار الصدري عن المشاركة فيها.
وسبق أن دعا مقتدى الصدر أتباعه إلى الامتناع عن الترشح في الانتخابات، أو التصويت فيها، وبحسب إجابته عن سؤال لأحد أتباعه، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والمنشور في حساب وزير القائد، المقرب منه،فقد قال: "مشاركتكم للفاسدين تحزنني كثيراً ومقاطعتكم للانتخابات أمر يفرحني ويغيظ العدا"، واستجاب أتباعه بالفعل لهذه الدعوة.
يُذكر أن محافظات جنوب البلاد، كانت الأكثر ضعفاً في عملية الانتخاب،إذ سجلت محافظة ميسان أدنى هذه النسب بمشاركة بلغت 29%، وفي محافظة ذي قار سُجّلت نسبة 31%، تلتهما النجف بواقع 32%، وواسط 37%.
وعلى النقيض من ذلك،ازدادت نسب المصوّتين في المحافظات الغربية، وجاءت محافظة صلاح الدين في المرتبة الأولى بنسبة 59%، والأنبار بحاصل 57%، ثم الموصل بـ53%.
وفي محافظة كركوك، حيث يتصاعد الصراع العربي الكردي، سُجّلت أعلى هذه النسب في عموم البلاد، بمشاركة 66% من الناخبين فيها، فيما سجلت بغداد، مشاركةً نسبتها 21% في الرصافة، و32% في الكرخ.
عزوف البعض عن المساهمة في الانتخابات أو اعتزالهم إياها، تبرره المشكلات الجمة التي مرّ بها البلد مؤخراً، ويوضح مدى الهوة الحاصلة بين المواطنين والطبقة السياسية.
التجارب الانتخابية السابقة، وعدم علاج المشكلات المتراكمة، عززا هذا التراجع، وزرعا يقيناً لدى الناس، بعدم جدوى أملهم في السياسيين ووعودهم الإصلاحية، وانشغالهم حال فوزهم في صراعاتهم على مقاعد السلطة، وزيادة رصيدهم المالي عبر الفساد.
وبرغم صحة هذا الجانب، إلا أن الباحث السياسي محمد العزي، يعتقد أن عزوف المواطنين عن التصويت، أتاح في الوقت نفسه، عودة الأحزاب التقليدية إلى الواجهة السياسية داخل محافظاتها، وسيطرتها على زمام الأمور بأقل عدد من الأصوات.
ويشير العزي إلى أن هذه الهيمنة ستوطد وجودها سياسياً، ومشاركتها في صنع القرار المحلي، وتالياً صعود منحنيات الفساد بشكل أكبر، وهو ما يؤكده اتجاه المرشحين نحو شراء أصوات الناخبين.
ويقول: "كان من الممكن تلافي ذلك، بالمساهمة في انتخاب الأجدر سياسياً أو الوجوه الجديدة، بدلاً من الوجوه التقليدية، ومنع استفحال مسلسل الفساد".
كان مقتدى الصدر قد دعا أتباعه إلى الامتناع عن الترشح في الانتخابات، أو التصويت فيها، قائلاً: "مشاركتكم للفاسدين تحزنني كثيراً ومقاطعتكم للانتخابات أمر يفرحني ويغيظ العدا"، وقد استجاب أتباعه بالفعل لهذه الدعوة.
يُذكر أن تسريبات كثيرة تحدثت عن شراء مرشحين للأصوات الانتخابية، بمبالغ مالية وصلت إلى 50 ألف دينار (نحو 30 دولاراً)، كما اعتمد آخرون على أسلوب الوعد بالوظائف والخدمات ومنح العقود الاستثمارية لرؤساء العشائر، من أجل كسب أصوات أبنائها.
وضمن هذا السياق، صرّح المتحدث باسم تحالف الشبكات والمنظمات لمراقبة الانتخابات، وائل البياتي، لوسائل الإعلام، عن رصد نحو 929 مخالفةً وحادثاً في عموم المحطات الانتخابية في البلاد، كان معظمها دعايةً لمرشحين محددين داخل مراكز الاقتراع أو في محيطها، بالإضافة إلى تواجد عناصرهم الإعلامية غير المصرّح بوجودهم داخل هذه المراكز.
ظاهرة شبه جديدة لوّحت بها الانتخابات الأخيرة، هي التحول من الترشيح الحزبي إلى ترشيح الإخوة والأبناء والقوائم الخاصة بالمحافظين، ومثالاً على ذلك فقد فاز محافظ كربلاء، نصيف جاسم الخطابي، بالمرتبة الأولى بأكثر من 57 ألف صوت، كما حصد تحالف "تصميم" وزعيمه محافظ البصرة، أسعد العيداني،المرتبة الأولى أيضاً، بواقع 14 مقعداً من أصل 23، وكذلك فاز محافظ صلاح الدين، إسماعيل خضير الهلوب،بالمرتبة الأولى، تلاه نائبه الأمني، زهير الزهوان، وهو أخو عضو اللجنة المالية النيابية، هيثم الزهوان.
وفي محافظة نينوى، تمكّن تحالف "نينوى لأهلها"، بقيادة محافظها المستقيل، نجم الجبوري، من نيل المرتبة الأولى أيضاً، بحصولابنه مهند نجم الجبوري، على 55 ألف صوت، تلاه المرشح حسان العباسي، وهو ابن وزير الدفاع، ثابت العباسي، عن القائمة نفسها، بنيله المرتبة الثانية بـ12 ألف صوت.
يمكن عدّ فوز هؤلاء الأشخاص نابعاً من عملهم الإيجابي وخدمتهم لمحافظاتهم، ولكن الباحث السياسي، علي هادي الجاف، يؤكد على عدّه جانباً سلبياً، ويشير إلى أن اعتقاده لا ينبع من أداء هذه الشخصيات، وجدارة البعض منها في إدارة ملف محافظاتها، ولكنها ستُدخل البلد في نفق مظلم من الصراعات الجديدة، لسببين، يحدد الأولبالعداوات السياسية التي تمتلكها هذه الشخصيات، وتالياً منعها من الاستمرار في عملها الإيجابي المعتاد، أما السبب الثاني فهو مساهمتها في تحول مسار العملية السياسية من الإقطاعية الحزبية إلى إقطاعيات فردية وعائلية، وأن استمرار هيمنتها سيؤدي بلا شك إلى فساد جديد، خاصةً أن مثل هذه المناصب تحمل إغراءات ماديةً عديدةً لها أو للمقربين منها.
في الحقيقة، فإن المزايا التي يحملها مجلس المحافظة كثيرة جداً، ومنها سيطرته على المنح المالية واقتطاع الأراضي الاستثمارية وامتلاكها، بالإضافة إلى قدرته على ترشيح أقارب أعضائه والمقربين منهم في المناصب المهمة داخل المحافظة، وترشيح المناقصات الحكومية ومنح الرخص الاستثمارية لشركات عائلية، وتحول المحافظة من حكومة الناس إلى حكومة العائلة، على غرار تلك التي شهدها العراق إبان النظام السابق، قبل 2003.
لطالما كان الواقع الأمني، الهاجس الأول في أحلام العراقيين، بالإضافة إلى علاقة الأحزاب التقليدية بالجماعات المسلحة، وقدرتها على إثارة الاضطرابات الأمنية، وخصوماتها المستمرة وعدم التقائها على أرضية واحدة، كفيلة بتعزيز هذه المخاوف.
ومن أبرز الأمثلة على تلك الخصومات، الخصومة التي تجمع بين "عصائب أهل الحق" و"ائتلاف دولة القانون"، فالطرفان قادران على تأجيج الساحة وتحريك الجماعات المرتبطة بهما أو المقربة منهما للاصطدام.
السلطة الأمنية التي يمتلكها مجلس المحافظة، تثير هذه المخاوف، خاصةً تلك المتعلقة بقدرته على رسم الخطط الأمنية للمحافظة، حيث تشير المادة السابعة من قانون مجالس المحافظات لعام 2008، إلى صلاحية مجالس المحافظات، في رسم السياسة العامة للمحافظة، والمصادقة على الخطط الأمنية المحلية.
هذه الصلاحية قد يتم توظيفها في أجندات خاصة أيضاً، لاسيما لدى تلك الكتل المرتبطة بما يُسمّى المقاومة العراقية، وقدرتها على تخويل أعضائها بالمرور والتحرك داخل المحافظة، وتسهيل مهامهم في استهداف البعثات أو القواعد العسكرية الأجنبية، وتالياً تعكير العلاقات الخارجية العراقية.
مصادر متعددة تؤكد هذا الجانب، مرتكزةً على العداء الحاصل داخل الإطار التنسيقي بين قوى الدولة السياسية، والقوى المناوئة لها، ورغبة الأخيرة في إحراج حكومة السوداني، عبر ضرب الأهداف الأجنبية داخل البلاد.
وتختلف هذه المخاوف في العاصمة بغداد، بين مخاوف أمنية ومخاوف من اضطراب الوضع الطائفي، إذ يُعدّ صعود قائمة "تقدّم"، ورئيسها محمد الحلبوسي، سابقةً أولى، كأول فوز لحزب سنّي على حساب الشيعة في العاصمة بغداد، برغم أن الحلبوسي لن يكون قادراً على تشكيل مجلس المحافظة، بسبب قدرة خصومه على التحالف ضده.
ولكن النسب المتقاربة بين الخصوم، والعداء الكبير بينهم، قد تشير إلى انتقال الصراع من صراع سياسي إلى صراع نفوذ داخل مجلس العاصمة، وسط مخاوف من انتقاله إلى الشارع عبر إثارة النعرات الطائفية.