سكاي برس/ بغداد
أكثر من 20 عاماً مضت على سقوط نظام البعث، ولا يزال أكثر من 67 ألف عراقي بانتظار رفع القيود وتعويضهم من آثار عقوبات صارمة فرضتها "بطاقة حمراء"، حرمتهم من حقوقهم المدنية، وصنفتهم على أنهم مرتكبو "جريمة مخلة بالشرف" يشرح علي الشافعي، المتحدث الإعلامي باسم أصحاب البطاقات الحمراء لـ "الحرة" أسباب منح تلك البطاقة "المشؤومة" كما يصفها للجنود المُسرحين من الخدمة بداية من العام 1994 وحتى العام 2000.
فالنظام السابق، كما يقول: "مارس سياسات ظالمة خلال تسعينيات القرن الماضي بالاعتداء على دول الجوار أو العراقيين في الداخل، وكان مطلوباً من الجنود المشاركة بتلك الحروب العبثية، وتنفيذ الأوامر العسكرية دون نقاش". وبالنتيجة: "آلاف الجنود رفضوا الالتحاق وتنفيذ تلك السياسيات وتحولوا إلى هاربين ومطاردين، وهو نوع من أنواع الاعتراض على سياسيات النظام السابق".
وهؤلاء الجنود كما يشير الشافعي "اعتبرهم النظام خونة، وأصدر بحقهم العديد من القرارات المجحفة". ومن ضمن تلك القرارات: "قطع صيوان الأذن والوسم على الجبين والإعدام، وهي عقوبات اضطر النظام حينها إلى وقفها بعد اعتراض الأمم المتحدة، فاخترعت الحكومة عقوبة مبتكرة تحارب الإنسان نفسياً، وتسبب له إذلالاً اجتماعياً خطيراً، باعتباره متهماً بجريمة مخلة بالشرف". والجرائم المخلة بالشرف لم ترد بفقرة خاصة ضمن التشريعات العراقية، وإنما جاءت ضمن فقرات منها جرائم السرقة والاختلاس والتزوير وخيانة الأمانة والاحتيال والرشوة وهتك العرض.
خدمة مضاعفة وعقوبات مدنية
بعد رفضه الانصياع للأوامر العسكرية أوائل تسعينيات القرن الماضي، قرر أبو حسين الهروب من الجيش والتواري عن الأنظار، وما أن استقرت الأوضاع حتى سلم نفسه إلى السلطات وحُكم عليه بالسجن. بعد خروجه من السجن استجاب لقرار الخدمة المضاعفة كعقوبة تالية، ثم خدم مدة هروبه مضاعفة مرتين، وحين تم تسريحه كما يقول : "فوجئت بتسريحي وفق البطاقة الحمراء، رغم السجن والخدمة الطويلة.
والعقوبة الأصعب كانت اعتباري متهما بجريمة مخلة بالشرف". يشرح أبو حسين المعاناة النفسية التي تعرض لها خلال تلك المدة من عمره: "لم أتمكن من العمل في القطاع الخاص، وألغيت البطاقة التموينية من عائلتي في وقت كان المجتمع بأكمله يعاني من العوز والفقر، بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض علينا، بعد اجتياح الكويت".
كان ذلك القرار بالذات (إصدار البطاقة الحمراء): "إهانة اجتماعية هائلة فأنا كنت مطالباً بتحمل التعامل السيء من الفرقة الحزبية، وفي نقاط التفتيش. حياتنا كمدنيين انتهت، وحتى عقد القران كان ممنوعاً فتأخر زواج معظمنا، والبعض تزوج خارج المحكمة وفق عقد شرعي".
ونتيجة لذلك "إما أصبح لدينا أبناء بلا هويات رسمية، أو اضطر البعض إلى تسجيلهم بأسماء أقارب الدرجة الأولى". وكما يقول علي الشافعي فالبطاقة الحمراء "كانت تعني في كل مكان شيئا واحدا، أننا مطلوبون للحكومة".
كل هذه الإجراءات كانت مترافقة مع "قطع الأرزاق فعشنا في فقر وحرمان لسنوات، فلا يمكن أن نعمل بدوائر الدولة، ومن الصعب الحصول على عمل بالقطاع الخاص، ناهيك عن عدم السماح لنا بامتلاك سيارة أو بيت".
الظلم موزع بالتساوي
يتجاوز عدد أصحاب البطاقات الحمراء، بحسب ملفات وزارة الدفاع العراقية 67 ألف عراقي كما يشير الشافعي: "ولا يشمل فقط أبناء الجنوب كما يتوقع الكثيرون، بل لدينا أصحاب بطاقة حمراء حتى من تكريت نفسها (مسقط رأس النظام السابق صدام حسين)".
كما يوجد "نحو 8 آلاف عراقي من القومية الكردية، بالإضافة إلى الأقليات العراقية المتنوعة من المسيحيين والشبك الإيزيدين والكاكائية، ولم يسلم من البطاقة الحمراء أي مكون عراقي من زاخو حتى الفاو". ويتفق شيرزاد أبو مصطفى، وهو عراقي كردي ولد في العاصمة بغداد، تعود أصوله إلى مدينة دهوك العراقية في إقليم كردستان، مع ما ذهب إليه علي الشافعي.
واضطر شيرزاد أبو مصطفى كما يقول إلى ترك الخدمة العسكرية خلال فترة تنفيذ عمليات الأنفال، ومرة ثانية أوائل التسعينيات: "كان المطلوب مني ضرب أبناء جلدتي، وتنفيذ قرارات إبادة بحقهم، وهذا ما لا يمكن تخيله". قرار شيرزاد ترك الخدمة خلال تلك المرحلة قائلا: "كلفني الكثير معنوياً ونفسياً، وما أن استقر الوضع حتى سلمت نفسي للسلطات، حكم علي بالسجن، ثم قضيت ثلاثة أضعاف الخدمة، أي تسع سنوات كاملة من عمري".
في ذلك الوقت: "كان يفترض أن يتم قطع أذني أو وسم بين الحاجبين بحرف الجيم (جبان) كعقوبة للهاربين من التجنيد، ولكن في تلك الفترة رفضت الأمم المتحدة العقوبات التي فرضها النظام، فعوقبت بالبطاقة الحمراء التي ما زالنا نعاني من تبعاتها حتى اليوم".
الأمر ذاته ينطبق على شاكر الجبوري وهو من أهالي الحويجة بمحافظة كركوك، والذي حكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص: "تم تخفيف الحكم بعد لستة أشهر مع مضاعفة الخدمة، وجرى تسريحي ببطاقة حمراء.
وكان مسموحاً لأي شخص إهانتي وإذلالي دون القدرة على تقديم الشكوى، لأنني كنت اعتبر مواطن من الدرجة الثانية". ويتحدث محمد الشمري الذي كان ينتمي إلى الحرس الجمهوري وهو من محافظة بابل إلى "الحرة" عن العذاب النفسي الكبير الذي كان يعاني منه، ليس هو فقط، بل كل من رفض التجنيد في ذلك الوقت: "لم نكن نسكن بيوتنا، وكنا مطاردين يمكن أن يتم إعدامنا رمياً بالرصاص في أي وقت يتم إلقاء القبض فيه علينا". النظام كما يشير: "غير العقوبة لاحقاً، وحولها إلى عقوبات مهينة كقطع الأذن أو الوسم على الجبين". أما صاحب البطاقة الحمراء "فكان مشبوهاً ومحروماً من حقوقه المدنية هو وعائلته".
موتى أحياء
جميع من التقى معهم من أصحاب البطاقة الحمراء يشتركون في الخطوط العريض للمعاناة، مع اختلاف في الموقع الجغرافي. فأحمد الوائلي فصل من وظيفته عندما كان معاوناً قضائياً عام 1996 ورغم محاولاته بعد سقوط النظام للعودة إلى الوظيفة إلا أنه فوجئ: "بأنهم يعملون بنفس قرارات النظام السابق، وتم رفض عودتي، كون البطاقة سجلت قيداً جنائياً لحاملها، وضاعت كل جهودي الدراسية ومستقبلي".
ويقول إبراهيم محمد إن البطاقة الحمراء: "تحمل في طياتها قصصاً يشيب لها الشاب، وعقوبات ضد الإنسانية من تعذيب وسجون". ويرى أن ما حصل لهم "كان سحقاً لنا كبشر". ورغم عدم حصولهم على حقوقهم حتى الآن "إلا أننا لن نتنازل مهما دار الزمن". فيما يختصر هيثم حسين، وهو من أهالي الناصرية، قصص أصحاب البطاقة الحمراء بوصفهم: "الموتى الأحياء".
وبعد سقوط النظام العام 2003، كما يقول علي الشافعي: "سقطت العقوبات المدنية. مع ذلك، حتى هذه اللحظة وزارة الدفاع تعتبرنا هاربين ومعاقبين وتسير وفق قرارات البعث". لا تعويض ورغم إصدار قرارات التعويض للمتضررين من النظام السابق وفق القانون رقم 5 لسنة 2009: "إلا أن أصحاب البطاقات الحمراء لم يتم شمولهم بالتعويض أو الراتب، ولا حتى بإمكانيه الحصول على تقاعد مقابل الخدمة الطويلة في الجيش أو ضم تلك الفترة إلى الخدمة المدنية لأغراض التقاعد" كما يقول الشافعي. ويتعلق الأمر "بوجود ربط بين البطاقة الحمراء والهروب من الخدمة العسكرية، لكن الحقيقة أننا عدنا، وتمت معاقبتنا بالحبس ومضاعفة فترة التجنيد ثم تم تسريحنا.
وهذا يعني أننا لم نكن جبناء، ولا هاربين من الخدمة لكنها كانت طريقتنا في الاعتراض على قرارات النظام آنذاك وهذا ما تم معاقبتنا عليه". ويشير إلى أن أصحاب البطاقات الحمراء: "غير منضوين لحزب أو كتلة، ولسنا من مكون معين لكن قضيتنا تتعلق بجميع المكونات، ولهذا السبب لم نجد صدى لمطالباتنا داخل البرلمان. وحرمنا مرة أخرى من بناء مستقبلنا خلال حكم النظام السابق، وحرمنا من التعويض عن الضرر بعد العام 2003". وكان أبو حسين يعتقد أنه سيدخل مرحلة جديدة بعد سقوط النظام: "فقد رفع عنا القيد الجنائي في وزارة الداخلية.
لكن، القيد العسكري بقي مستمراً ولم يكن لنا الحق بالتعويض كوننا بقيد عسكري وليس سياسيا. كما لا يحق لنا نقل الخدمة بسبب استمرار وجود البطاقة الحمراء وتعليماتها في وزارة الدفاع حتى الآن".
وصلت قضية أصحاب البطاقات الحمراء إلى البرلمان عام 2021 عبر إحدى النائبات، وجرت قراءة أولى لتعديل قانون تعويض المتضررين الذين فقدوا جزءاً من أجسامهم من جراء ممارسات النظام البائد رقم (5) لسنة 2009. وعدا عن هذا الإدراج لم يتحرك الملف في البرلمان، ويقول محمد الشمري أن الأمر قد يكون متعلقاً بـ"المساومات السياسية المتعلقة بإقرار القوانين مقابل قوانين اخرى، فملف أصحاب البطاقات الحمراء لا يتعلق بحزب معين أو مكون ليكون أقوى داخل أروقة مجلس النواب".
عضو مجلس النواب، زوزان كوجر، تؤيد قضية أصحاب البطاقات الحمراء داخل البرلمان. وتقول لأن هذه الشريحة "تعرضت إلى عقوبات عسكرية، وأخرى مدنية انتهكت حقوقهم، ولم يتم إنصافهم من قبل الحكومات المتعاقبة بعد 2003".
وأضافت أن هناك اتجاها خلال الدورة البرلمانية الحالية لتعديل قانون تعويض المتضررين ليتم شمولهم "حيث تمت القراءة الأولى للتعديل الثالث على قانون المتضررين، ويتم حالياً دراسته ضمن اللجان المختصة، مثل القانونية والمالية والدفاع والأمن لشمولهم بالتعويض أو الرواتب التقاعدية".
أما التأخير الذي حصل فمرجعه إلى "وجود جنبة مالية، وهو ما يعني إضافة تخصيصات ضمن الموازنة.
وعندما يتم استيفاء المواد القانونية من اللجان المختصة سيتم دفعه إلى القراءة الثانية، وسنقف معه لإنصاف هذه الشريحة التي تعرضت لتعامل تمييزي وفقدت الكثير من حقوقها خلال حكم النظام السابق".