Skip to main content

صدام حسين بين شاعرين ...

مقالات الأربعاء 18 تشرين ثاني 2015 الساعة 21:22 مساءً (عدد المشاهدات 11073)

 

بقلم  :  سمير الربيعي 

محمد مهدي الجواهري و عبد الرزاق عبد الواحد.(كلاهما مداحان)

العنوان الطويل لهذه المقالة يختصر بشاعرين ورئيس...الرئيس هو صدام 

صدام الذي سخر كل طاقات الشعراء والادباء لشخصه !! 

مدح الشعراء في تاريخهم السلاطين والأغبياء ولكنهم لم يصلوا كما مجد صدام حسين، فقائمة المداحين له ولحزبه وحربه تتجاوز الالف كاتب وشاعر عراقي وعربي. فما سر هذا الحب يا ترى وما نوعه.. .عندما انبرى الكتاب والباحثون والسياسيون والادباء في تمجيده وترفيعه وتضخيمه الى درجة انه لم يصدق نفسه !

ترى هل يستحق هذه المكانة فعلا !!

يروي الكاتب العراقي سلام عبود في كتابه “ ثقافة العنف في العراق ان اول قصيدتين في مديح صدام كانتا لشاعرين تمّ تصنيفهما من شعراء البعث هما

( شفيق الكمالي ومحمد جميل شلش). بدأ هذا الاخير حياته الشعرية في اوائل الستينيات مقرّباً من الايديولوجيا الثورية ، ودخل السجن اكثر من مرة بسبب مواقفه وقصائده. لكن السمة التي عرف بها في الستينيات سرعان ما انقلبت في السبعينيات فتغيرت حياته بعد قصيدته المدحية في صدام حسين. وكان يومذاك يلقَّب بـ"السيد النائب". وقد قال فيه:

وأجلّ ملحمة العقيدة والفدا - اني اجلك ان اكون معاتبا

واجلّ ما تكنى به واحبه - اني اسمّيك الحبيب النائبا.

وقد كتب عنه جليل العطية في كتابه "فندق السعادة" " عن شفيق الكمالي عندما تسلل صدام الى رئاسة الجمهورية عام 1979 كان الكمالي ضمن لائحة التصفية (21 ) رفيق اتهمهم صدام بالخيانة في اول يوم استلامه للحكم بعد احمد حسن البكر عرفت فيما بعد(مجزرة الرفاق)

 ونجا بأعجوبة من أكبر مجزرة علنية شهدها العراق الحديث، انهار الكمالي  ووجد نفسه مضطراً لكتابة قصائد في حب القائد الضرورة فقد اعتقد أن التزلف لصدام ومديحه وتمجيده في أشعاره سوف يزيل شكوك صدام منه و يحفظ حياته، لذلك كتب شعرا في صدام لا يكتبه أكبر المنافقين والكذبة من وعاظ السلاطين، فهو من كتب في صدام قصيدته التي قال فيها:

تبارك وجهك الوضاء فينا ------ كوجه الله ينضح بالجلال.

يقول فخري قدوري في كتابه (هكذا عرفت البكر وصدام) : التقيت بشفيق في الكويت أثناء أحدى زياراته لها ، انفردت به في مقهى تطل على الخليج ، وكنت كعادتي احتفظ بقصاصات مما نشره في تلك الفترة المحزنة.سألته :- لماذا أبا يعرب تكتب خلافاً لرأيك الحقيقي في صدام . تقول في قصيدة محجلة تلقيها بنفسك في تلفزيون بغداد ، "رأيت الله في عينيك؟" 

واعترف لي قائلاً :- أسمي على لائحة التصفيات، ولم يبق سوى تحديد موعد التنفيذ 

، وانت تعرف حقده علي وعلى أمثالي ممن يعرفون ماضيه.

قلت له : أنت ألان خارج العراق- أبق حيث أنت يمكنك العيش 

أجابني بحزن عميق : واسرتي؟... لقد فكرت كثيراً بالابتعاد ، ولكنني أعرف أنه سيبيد عائلتي كلها..". لكنه تعرض للتصفية في ما بعد في حادثة قيل لتبريرها انه كان في طريقه للهرب الى سوريا التي كانت تعتبر من الد الخصوم لصدام !!  

ذكر  د.ساهر فاضل الهاشمي في مقاله له (منافقون في الادب بحثا عن الدنانير والذهب )

كانت المناسبات التي اسموها ( الوطنية ) لا تمر دون ان يتفاعل البعض من المداحين فيها وتتسابق الاقلام لنيل رضا الحاكم الجائر . وفعلا تمتليء الصفحات الثقافية للصحف والمجلات بسيل المدائح والتعظيمات والتهاني بالانتصارات المزعومة دون ان يكون لها اي وجود على خارطة الارض التي كانت تحتضن الاحزان والجوع والقمع .

حب المديح أمر يشترك فيه مع صدام، بدرجات أكثر أو أقل، كثير من الحكام. لكن هذا الضرب من المديح مخصص لصناعة ديكتاتور، ومخصص لتمجيد النزعة الفردية والاستثنائية في شخصية صدام . أي أنه مخصص لنسج الغطاء الروحي الزائف. فصدام هنا هو قدر الشعب وقدر الأمة، بل هو سيد الدنيا! في تلك النتف لم يكتف الشعراء ان  يجعلوا  صدام "مجد السماء"، وإنما أصروا ّ على جعله بمنزلة من هو "ليس كمثله شيء"، أو أعلى قليلا في الرتبة. فقد فاقت صفات صدام، بعددها وتنوعها، أسماء الله الحسنى . وكان لابد من فعل ذلك . لا شك ان المديح ، مديح الولاة والسلاطين ، يشكل جزءا من التراث العربي ، ولا يزال قمة الشعر العربي في الاوساط التقليدية ، اي الشعر المندمج بالسلطة . لكن يبدو ان مرحلة المديح كانت سيئة في الشعر العربي، فالمحنة ليست في المديح بل في مديح الطاغية. ورغم ان ذلك لا يحتمل، فان البعض تتطابق نزواته الخاصة مع نزوات الطاغية، ذلك ان حلم الشاعر احيانا يشبه حلم الطاغية. ومثلما صار صدام القائد الأوحد بالتدريج وبإقصاء كل من يزاحمه في الطريق الى ذلك، كان على شاعره الأوحد فقط أن يمشي معه، انزوى شعراء البعث، الواحد تلو الآخر بينما تقدم عبدالرزاق عبدالواحد على انزوائهم واحداً بعد الآخر، 

والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ليس بابدع منهم فلا خلاف حول قوة ومتانة وجمال شعره .ولا خلاف حول انزلاقه في هاوية المدح المبتذل للنظام السابق وتعظيم رجله الأول,الذي أغدق عليه  وحَرَفه عن  طريق الشعر المُترفع, وجعله ينظم شعر البلاط , الذي أدى سقوطه الى سقوط غير مأسوف عليه, لبعض ما كتبه من قصائد.والذي جعله يقول  انه “شاعر الرئيس” (صدام). وهو يفتخر في حديث له في جريدة “الشرق الاوسط” بأنه قال في صدام شعرا لم يقله المتنبي في سيف الدولة: “ 

ادرك حدود الصبر لا تتزعزع-- وقم ظهور الناس لا تتقطع

فالسيل قد بلغ الزبى سيدي-- وبيوت اهلك بالتقى تتدرع

ولقد تحامينا بحيث فطيمنا -- لا يفتدى ورضيعنا لا يرضع”. 

و قيل ان صدام لاحظ ان عبد الرزاق بدأ يمدح البكر لمناسبة ومن دونها، فامتعض وارسل من يرشد عبد الرزاق اليه فاشتعل المديح على ليلاه، واتت حرب الخليج الاولى فبالغ عبد الرزاق في قصائده الاحترابية مادحاً قائد الحرب، وفعل الحرب ودوامها، واعتزازه بها. لقد اصبحت عسكرة المجتمع هي الهوية الثقافية للعراق الصدامي البعثي. هي نبض الحياة "المميت" ويقدمها النظام للعالم على انها الوجه الاثير لهذا الشعب. يقول سلام عبود ان الوطن في مفهوم الشاعر البعثي اصبح مساويا تماما لمفهوم الجبهة العسكرية، اما المواطن فمحض ذاكرة حزبية. هو كائن موعود بالحرب منذ الولادة، او حتى قبلها،.

وقد جعل ثقافة التبعيث الفضاء فارغا الا من قصائد المديح والولاء. المديح للقائد يصبح فضاء الثقافة، وتمجيد الحرب والاستشهاد هما سند كل عبارة. وقد رسم عبد الرزاق عبد الواحد ثقافة التبعيث وعسكرة الحياة رسما مؤثرا في قصيدته “اي الخيارين“: 

بلى يا لهيب القادسيات كلها ...ويا سحبا للمجد جل انهمارها

ويا جند من حتى المقادير جنده...ففي يده اقبالها وانحسارها

فإن قلت يا صدام… ناديت امه...لان المنادي زهوها وفخارها. 

لقد اصبحت عسكرة المجتمع هي الهوية الثقافية للعراق الصدامي البعثي. وهي نبض الحياة “المميت” ويقدمها النظام للعالم على انها الوجه الاثير لهذا الشعب. حصل عبد الرزاق عبد الواحد من صدام على ما لم يحصل عليه شاعر مادح من مال وجاه وبيت على نهر دجلة، وكن له صدام حبا ليس ادل عليه من الصور التي بثتها شبكات التلفزيون لصدام وهو ينهي خطابه بعد فوزه في اخر زحف كبير "انتخابات" قبل الحرب . 

يقول سلام عبود وهو باحث وروائي . لا يمكن للاديب في أي حال من الاحوال ان يقول كلمة في وطن يحكمه صدام او هتلر الا بطريقتين اولاهما ان يتحامق ويكتب علنا، فيكتب في الوقت ذاته وصية موته. وثانيتهما ان يصمت، وبذلك يكتب وصية موته الادبي. تلك المعادلة الصعبة واجهها كتّاب العراق ممن ولدوا ادبيا في الزمن الصدامي وسنوات حكم البعث. ولكن الافدح حين يكون الشعراء من المنظّرين للصدام شأن حميد سعيد صاحب مصطلح "المسألة القندرية"، او سامي مهدي الشاعر البعثي عن ايمان والذي لم يخف قط ولاءه لقيادة صدام "الحكيمة"، بل كتب مقالات تشيد بانجازات هذه القيادة، ونظم قصائد عديدة تهلل لانتصاراتها في حرب القادسية..كما وقد رسا الرئيس صدام  تقليدا جديدا تكريما لثقافة المديح لشخصه  حينما قرر منح الالقاب للشعراء . فعبد الرزاق عبد الواحد شاعر القادسية وشاعر الرئيس وغزاي درع الطائي شاعر القوات المسلحة وعبد الودود زكي القيسي شاعر القوات المسلحة اما رعد بندر فلقّب بـشاعر ام المعارك و ساجدة الموسوي، شاعرة ام المعارك . وهذه الالقاب يتمتع صاحبها بامتيازات كبيرة ومكانة مرموقة لدى السلطان وحاشيته 

وقد نشرت جريدة الحياة البيروتية مقالا - .شاعر الديكتاتور ... الذي ليس سيف الدولة ردا على ما اسماه الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في مذكراته جاء فيها... 

لعل واحدة من سمات العزة بالإثم تتعلق في تيقن صاحب المذكرات بأن ماضيه مقدس، ينبغي أن يروى بطهرانيته فحسب، ولا يشوبه أدنى دنس، ويمكن أن توسم به عهرانية فكرية لتجربته. إذاً، ليس ثمة اعتراف ولا اعتذار، وهي مذكرات صدى، وليست صوتاً داخلياً محجوباً. فشاعر "القادسية وأم المعارك" وأبو عدد من شعرائهما من قبيل لؤي حقي ورعد بندر وسواهما، ليس من شأنه أن يندم أو يعترف أو يعتذر، الاعتراف والاعتذار فلسفة غير مطلوبة منه الآن، وهي شأن شخصي بالتأكيد، بيد أن التمسك بجمرة الحب، وحبل المودة، موقف آخر قد يجد له من يسوغه، لكنه وقف في مسافة ملتبسة بينهما، عندما بدا كمن ينكر قصائده في مدح صدام، ليقول: أنا شاعر العراق.

استعان عبدالرزاق بديباجة المتنبي في المديح مباركاً "سيف العرب" صدام مصلتاً على رؤوس أهله، واستعار من الجواهري مديحه للحسين الشهيد، بأحد أبياته:

 "فيا أيها الوتر في الخالدين ...فرداً إلى اليوم لم يشفع"،

 ليبالغ بفردانية صدام، ويذهب إلى نفي كل مستقبل لتكرار هذا الفرد حين يمعن في تفخيم بيت الجواهري مخاطباً صدام: يا أيها الوتر الذي لن يشفعا! 

وقد كانت للجواهري قصيدة عندما سمع بخبر محاولة اغتيال  عدي صدام واصبح معاق فقال :

شكى النتانة حتى عافك الاجل ...حين استضافك في تابوته الشلل*

واغلقت مدن الموتى نوافذها ...كي لاتراك الضحايا حين تنتقل *

وقدصرت عبثا على الدنيا ومنتبذا...بين القبور فقل لي اين تحتمل *

جرم حياتك.. ذل دونما سقم...كف الوساوس حيث العاروالعلل*

معوق النطق والاخلاق ترس مفترس...قد زادك الحق جرحا ليس يندمل*

ثأرالعذارى بسعف النخل يشتعل...ودم اليتامى سحابات ستنهطل *

على ابيك .. براكين مدوية... ياويح يومكما قد ارعد الاجل *

فبوركت كف من سواك مهزلة...كف ستعجز عن عرفانها القبل *

فشتان مابين الموقفين !!   

لم يوقف عبدالرزاق جهد قريحته الشعرية عند حدود معارك صدام، بل مضى بها، مجهداً ومجاهداً، نحو معارك أبنائه أيضاً، فعندما اقدم عدي على قتل كامل حنا الذي كان يعمل أحد مساعدي والده، بعد شهر واحد من انتهاء قادسية السنوات الثماني، أراد صدام أن ينجز صورة المستبد العادل، في أذهان الناس، فأوعز للقضاة بأن "يدعوا العدالة تأخذ مجراها" في الجريمة التي ارتكبها ابنه، لكن عبدالرزاق عبدالواحد انبرى وقتها ليذكره بأن عدالة أخرى، غير القانون المدني أو القضاء التقليدي، هي التي يجب أن تسري على عدي، إنها عدالة السماء وأحكامها الخاصة، فخرج بقصيدة من شاشة التلفزيون ونشرتها الصحف، ولم يحوها ديوان على ما أظن، ليطالب بعفو إلهي للقاتل: 

"يا سيدي كل نفس قبلك امتحنتْ.. حتى الأئمة والأسباط والرسلُ 

ولم يقل ربُّ إسماعيل خذ دمه ..لكن فداه ألا تفديه يا رجلُ 

فهب أخانا لنا وأعدل كما عدلوا".

كتب الكثير من القصائد في حب العراق٬ لكنه كان يربطها بولائه لصدام حسين٬ عادا "صدام بانه العراق٬ والعراق هو صدام"٬ ما أفقد قصائده المصداقية في الوطنية٬ وتسبّب في اتهامه بانه "شاعر سلطة"٬ لا أكثر. رغم ان البعض زعم (أن السياسة أفقدته قوة الشعر، لكنهم لم يعرفوا أنها ألهبته الفكرة والكلمة) كما يقول د. ابراهيم السعافين . ولانعرف اي كلمة وأي فكرة قصدها السعافين سوى المديح والثنأالذي عرفناه عنه. 

كل كلمة يقولها صدام كانت تنظم شعريا، يصرح بأن "القتال واجب مقدس"، فتتحول القصائد في ليلة وضحاها الى قصائد مقاتلة. ويخطب "ان الشهداء يرسمون مستقبل العراق" فيترجم الشعراء لوحة النضال الرفاقي في الزمن الخاكي:"

خرج مرة شاعرنا عن المألوف ومدح الشيخ زايد في تسعينات القرن الماضي مما أثار غضب عدي صدام, وكتب عنه بهذا الخصوص مظهر عارف في (موت شاعر) "ان بعض الشعراء يقولون ما لا يفعلون وينكرون الجميل, فقد أغناهم صدّام بعدما كانوا نكرات ولكن, في سبيل حفنة من الدولارات يسيل لها لعابهم ويهيمون في كل واد" 

اصيب عبد الرزاق بالصدمة وهو يطالع المقال، وتوسل بالصغير والكبير لايضاح الموقف لعدي. فهو لا يحتمل زعل القائد ونجله، ولا انقطاع المال الوفير من خزائن السلطان، ولا يحتمل ان يزاح من "قبو" البلاط، فكتب توضيحا الى صحيفة "بابل" امر عدي بنشره بحروف صغيرة في الصفحات الداخلية امعانا في اذلال الشاعر، وفي التوضيح  برر الشاعر مدح زايد بأنه تعاطف مع الشعب العراقي ويحب صدام.

وقد أصاب( الشيخ أحمد الكبيسي) حين قال عن عبد الرزاق عبد الواحد بأنه " شاعر مبدع أفسدته السياسة, إذ لا يجوز للشاعر المبدع ان يبيع نفسه لأحد, أو ان يكون شاعر بلاط ". ولم يكن دفاع عبد الرزاق عن نفسه مقنعا حين قال " لست بشاعر بلاط, فالمتنبي كان يمدح سيف الدولة كشخص وأنا لم أكن أمدح صدام كشخص وانما كرمز للعراق ." (عذر أقبح من فعل) .

 فلما كل هذا الخنوع .اذا قلنا ان بعضهم ارغم على الاستتباع لصدام 

يقولون لامناص من ذالك الكل كان خاضعا 

الم يسمع بعضهم بالشاعر محمود البريكان في العراق، الم يكن من الصامتين؟ يقول عبد الرزاق عبد الواحد"عجزنا، نحن اصدقاؤه، وعجزت وزارة الثقافة والاعلام عن ان تحصل من محمود على مجموعة شعرية له وتنشرها، رغم ما قدمت له من مغريات!" وكلمة مغريات هنا مثيرة جدا، ولكن ليس بقدر الموقف الانساني للبريكان. هذا الشاعر الذي قتله لص وهو يعيش في عزلته، وقد نشرت قصائده بعد موته.

اراد المنتفعون  ان يكون البريكان خاكيا ورفض، وهم يريدون كل شيء في اطار الخاكية، ويصنفون الحياة الثقافية حسب القوالب الجاهزة حزبيا. رغم سقوط صدام تحولت الخاكية لدى البعض الى روح وعقيدة وهكذا دأبا الشعراء

اما (شاعر العرب الأكبر)، لقب استحقه الجواهري بجدارة عالية في حياته الشعرية ، وارتضاه له العرب أينما كان وأينما كان شعره، رغم أن الساحة الشعرية العربية كانت مليئة بالشعراء الكبار البارزين في عصره ، لكنه حصل على هذا اللقب عن موهبته التي رفعته لهذا وبإجماع مطلق، ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا انه لم يظهر بعد المتنبي شاعر مثل الجواهري، وهذه قناعة العرب جميعاً نقاداً وباحثين ومختصين وقارئين . . ومع ذلك فان الذاكرة الشعرية العربية تختزن له قصائده في المعري التي جعلت رجلا جادا مثل طه حسين يقف واقفا يصفق حين وصل الجواهري لبيته الشهير في المعري

-لثورة الفكر تاريخ يحدثنا --بان الف مسيح دونها صلبا

وهناك أكثر من رواية بالنسبة إلى من أطلق لقب شاعر العرب الأكبر على الجواهري، فرواية تقول إن العراقيين هم من أطلق عليه اللقب، ورواية أخرى تقول إن الأديب المصري، طه حسين، هو من أطلق اللقب على الجواهري ،في حين يقول الشاعرعبد الرزاق عبد الواحد ان الجواهري هو من أطلق على نفسه هذا اللقب أما قمة الشعر,التي اعتلاها الشاعر محمد مهدي الجواهري, فإن أمنيه الوصول اليها كانت وستظل حلما يراود  مخيلة كل الشعراء المبدعين.  

 كانت علاقاته وطيدة مع الملوك والرؤساء، ومع كبار الأدباء والفنانين والمفكرين وأهل السياسة، تنقل بين مدن الدنيا وعشق اجمل النساء وكتب اعظم القصائد حتى تلك التي مدح فيها الملوك والزعماء ومن بينهم الملك حسين والملك الحسن الثاني والرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر والرئيس حسني مبارك والرئيس حافظ الاسد الذي ربطته به وباسرته صداقة كبيرة امتدت الى ان يمدح الجواهري نجل الرئيس السوري باسل الاسد في القصيدة التي غنتها بصوتها فيما بعد ميادة الحناوي (باسل الخيل والفرسان).  وحتى مع الجمهور، .

ومدح ايضا ابنا صغيرا لاحمد حسن البكر لكنه ظل عنيدا في عدم مدح صدام حسين برغم كل الاغراءات التي لوح بتقديمها له صدام حسين لكن الجواهري قرر مغادرة العراق عام 1979 .ليكتب اسمه في سجل المادحين 

ومن قبل ذالك كانت له صلات وعلاقته مع الوصي عبد الإله.

نشأت  بينهما علاقة وطيدة، وتحولت المودة الى السهرات، حتى ان الوصي كان يضع بنفسه الثلج في كأس الجواهري، وقد مدحه عام 1947 في قصيدة " ناغيت لبنانا" اثناء زيارة رئيس لبنان آنذاك الى بغداد، ومما جاء فيها :

"عبد الإله" وليس عابا أن أرى             عظم  المقام  مطولاً  فأطيلا

 في بغداد قال له قاسم : عطـّر فمك بحديث الثورة .

فكتب الجواهري الكثير لشعبه ووطنه وثورته الفتيةانذاك ، كما لم ينس أن يأتي على ذكر صاحبه قال :

عبد الكريم وفي العراق خصاصة            ليدِ ، وقد كنتَ الكريمَ المحسنا.

اما علاقته مع الرئيس السوري حافظ الأسد فكانت من نوع خاص 

 دعاه الرئيس السوري حافظ الأسد إلى دمشق. بقي الجواهري لمدة عام مترددا، ولكن نقيب الصحفيين السوريين زار براغ وأقنعه، فقدم عام 1983 وأستقبل بحفاوة تليق به، وخُصصت له دار وسيارة .

مدح الأسد بقصيدة شهيرة، كان قد كتبها قبل أن يفكر بالمجيء الى دمشق :

 سلاماً أيها الأسد                  سلمتَ ويسلم البلد

ومدح نجله باسل الاسد في القصيدة التي غنتها بصوتها فيما بعد ميادة الحناوي (باسل الخيل والفرسان).   

وعندما توفيت زوجة الشاعر " أمونة " في كانون الثاني 1992 حضر الرئيس السوري مجلس العزاء ومكث لساعة ونصف الساعة .

وكانت له علاقته مع ملك الأردن الملك حسين

مستهل التسعينات، وأثناء إياب الشاعر الجواهري من القاهرة إلى دمشق مر بعمان ، فأستقبل بترحاب منقطع النظير، وحين قرأ يوم 2 كانون الأول 1992 في حضرة الملك حسين قصيدته :

يا سيدي اسعف فمي ليقولا          في عيد مولدك الجميل جميلا

يا أيها الملك الأجل مكانة            بين الملوك ، ويا أعز قبيـلا

يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم          سور الكتاب ، ورتلت ترتيلا

ترك الملك مكانه، وخلافا للتقاليد، صعد إلى المنصة لتقبيل الجواهري.   

اما العلاقته مع ولي العهد السعودي انذاك عبدالله بن عبد العزيز أثناء انعقاد مهرجان "الجنادرية"في نيسان 1994 . في السعودية، التقاه  " ، وفي  الوليمة  الكبرى للمهرجان، مسك يد الجواهري، وأجلسه على طاولته، متحدثاً معه بحميمية .

هكذا شأن الشعراء الكبار وهكذا شأن الشعراء الأحرار حيث يكون أمنية الرؤساء والملوك التحدث معه ومصاحبته وهم يفتخرون في تلك العلاقة لأنهم صحبوا هذا العملاق هذا الجبل الشعري شاعر العرب الأكبر الشاعر محمد مهدي الجواهري.

كتب الاستاذ جعفر المظفر مقالا 

(الجواهري عظيم رغم أنف السياسة وكذلك عبدالزاق عبدالواحد )

نحن نُعظِّم في الجواهري عبقرية النَظْم وليس بالضرورة عظمة الموقف .. الشعر في تجلياته الرائعة حالة إبداع قد تفرض في بعض الأحيان إنفعالا خارج مساحة الحسابات الفكرية الدقيقة التي هي خاصية المفكر وليست خاصية الشاعر.

خذ عبدالرزاق عبدالواحد, فهو كبير بنظمه وإنفعالاته التي تطلق بلاغة صياغاته خارج مساحة التصور, ولا ينال من كِبَرِه بهذا الإتجاه إختلافك مع مواقفه السياسية, فهو مؤيد كبير لصدام حسين وأنا لا شك أختلف معه على هذا الأمر, وقد يكون لك منه نفس موقفي, لكن كلانا لا يملكان حق إسقاط إختلافنا معه سياسيا وموقفيا على عبقريته كشاعر. - 

فالجواهري وعبد الواحد كلاهما مداحان وهذا هو شأن الشعراء.ولا عزاء للشعراء...

حمل تطبيق skypressiq على جوالك