Skip to main content

الإعلام المتوحّش

مقالات الجمعة 16 آذار 2018 الساعة 18:14 مساءً (عدد المشاهدات 5399)

بقلم/  د. عمار طاهر

 

الاعلام العراقي مصاب بتصلب المشاعر، فالصراع السياسي اصابه بالتوحش، واضحى ساحة لنقل الواقع الرديء، يصفي عبره بعض مراهقي السياسة حساباتهم الشخصية ..يتقاذفون الاتهامات، وما تجود به نوازعهم الشخصية من شر مطلق، غير عابئين بالجمهور، او مكترثين بمن يتلقى رسائلهم الرثة..المستهلكة.. من فرط التكرار، لذا اتوقع ان يصاب هذا الاعلام بالسكتة، ليغادره الناس، بحثا عما يلبي حاجاتهم.. ينشدون بعض الصدق والموضوعية والدقة وعدم الانحياز والتوازن وبقية المعايير المهنية .

نعم الاعلام العراقي انغلق على نفسه بالكامل، وتحول الى ماكنة دعائية، لا تبالي بالمجتمع، فهمه الاول التسقيط او التسويق السياسي، وتشويه صورة الاخر، لدرجة اصابته بالتصحر، والفقر الفني، والابتعاد عن العمل الاحترافي، بعد ان غزاه الدخلاء والطارئون وتحكم بمصائره هواة السياسة، واضحى معظم العاملين فيه مجرد اسماء مستعارة او مرادفة للرغيف.

والحقيقة ان اعلام اليوم لا يبشر بالقيم الاخلاقية، او يروج للمواضيع الانسانية التي تبحث عن الشخص العادي، ومشاغله، واوجاعه اليومية، او حتى احلامه البسيطة، مثلما تفعل ذلك الصحافة الغربية، فعندما تطالع الغارديان، او الديلي ميل، او نيويورك تايمز ، عن طريق المواقع الالكترونية، تجد تقريراً عن وفاة كبار السن بصمت في اليابان، دون ان يشعر بموتهم احد، او قصة عارضة ازياء تخسر احد اطرافها بسبب فايروس خطير، وتواصل مهنتها بنجاح عن طريق اطراف اصطناعية، او حكاية ابوين في خريف العمر، يفقدان ابنهما الوحيد، بسبب التهاب اغشية القلب، نتيجة اهماله مراجعة الطبيب.. وهكذا عشرات المواضيع التي تهز الروح، وتحرك المشاعر، حيث يتفاعل الاعلام مع الشارع، ولا يبالي بالسياسيين ومشاكلهم، فهو يفرد لهم مساحة صغيرة ، اما جل اهتمامه فينصب على الناس وهمومهم فقط.

عشرات بل مئات القصص الانسانية تدور يوميا في الاروقة الحكومية، والساحات العامة، ومخيمات النازحين، بحاجة الى اعلام عراقي يعكس كمرآة شفافة اماني البسطاء، والعاجزين.. والنماذج كثيـرة يزخر بها بلد، يعاني تركات الماضي، ومـــــأسي الحــــــــاضر .. تجارب ناجحة لنساء، واخرى فاشلة ..شباب يجترحون المعجزات، واخرون يقدمون على الانتحار ..قاصرات مطلقات ..مهاجرون ضاعوا في الشتات.. انفقوا رصيد اعوامهم وعادوا بالخيبة.. اطفال يفوزون بجوائز دولية.. واطفال يستجدون في الاشـــــــارات الضوئية.. نازح كان يحلم بخدمة بلده، فوجد الوطن اخيرا مجرد وتد وخيمة .. شيوخ عقهم الابناء، واضحوا بين ليلة وضحاها على قارعة الطريق ..

الموضوع استهواني شخصيا، وقد وجدت ضالتي عندما استدعتني احد المحاكم لتقديم خبرة في قضايا الاعلام المتوحش، حيث القذف والتشهير سيد الموقف .. طلب القاضي مني الجلوس، وفي حضرته امراتان طاعنتان على كرسيين مدولبين ..كانتا تبكيان بطريقة تستدعي كل مشاعر التعاطف والرأفة.. تدعيان ان شخصاً ما اجبرهما على التوقيع لبيع عقار عائد لهما .. رايت وجه القاضي وقد تاثر كثيرا، وطلب منهما ان يوكلا محامياً شريفاً للحفاظ على حقوقهما ..اما انا فقد فرت دمعة من عيني ، انتهكت صلابتي.. فلعنت جور الانسان لاخيه الانسان.

غادرت المحكمة مسرعا للحاق بالامراتين، لعلي احظى بموضوع انساني، اقدمه للقراء، وهنا حـــــــدثت المفاجأة، حيث وجدت احد الكرســـــــــيين فارغاً، ورايت العجوز الثـــــــــمانينية، وهي تسير على قدميها بقامة ممـــــــــــشوقة، وتجــــــهر بصوت مرتفع لمن حولها.. تحدثهم بزهو عن طريقتها في كـــــــسب عطف القاضي الطيب ..

وقتها ادركت صدق نظرية عالم الاتصال مارشال ماكلوهان بان – وسائل الاعـــــــلام هي امتداد لحواسنا – وامنت ان اعلامنا يستوحي طبيعته القاسية من إنسانيتنا المشوهة .. خيانتنا لذواتنا .. عدم صدقنا.. ازدواجيتنا.. كذبنا بعضنا على بعض.

حمل تطبيق skypressiq على جوالك